رجب حاجي يكتب لكم: المزيد من توضيح ملامح الجمهورية الجديدة يرحمكم الله…

كتب: رجب حاجي

يتحدثون عامة على الدستور ولا يدركون خفاياه، ويلومون عن عدم المشاركة، ولا يعترفون انهم، هم المشكل، يتطفلون على دستور البلاد مهما كانت نقائصه، وعوض إصلاحه يريدون التنكر لكل تواريخ الدساتير في البلاد، والعبث بحقائقها، ومساراتها، فتبا لمن يريد الانقلاب عليها دون روية، ولمن يريد رميها  في قاع اليم،  دون رصانة واتزان….

فبلادنا سباقة في هذا الميدان، وكان شيئا لم يكن، رغم ان شعبها نادى بأولوية دستور، ومات شهداء ـ عند ربهم يرزقون ـ وهم يدعون  لكتابته، وشمولية التفكير فيه، حتى الإجماع على قواعده، ولو اتبع “المختارون”  القواعد العلمية المعروفة لديهم، سواء للبناء أو الاصلاح، لانتهجوا الطريق الموصلة إلى الغاية، بنقد الموجود، وبيان غلوه، او نقائصه، واستخراج مزاياه إن كانت له مزايا، والتمعن في كتابة آفاقه، لأنه يرمي الى الديمومة…

جدل عقيم

فلا فائدة مثلا من إلغاء الفصل الاول، وكم اثار من جدل عقيم، لماذا اذا الرجوع اليه، وإثارة بلبلة لا طائل من وراءها، تهدف اصلا الى اثارة احقاد، اكل عليها الدهر وشرب، وظننا أنها اندثرت بمرور الزمن، وإبرازها لا يرمي إلا إلى إضرام النار من جديد، والحث على الانقسام، ولا الى الاتعاظ بالماضي، ولا احد يشك اليوم في كفاءة النخبة ونبوغ التونسيين.
إن أصحاب هذه الديار لهم باع في الكتابة، وشهرة في التضليل، يمتازون على غيرهم بالتظاهر في التواضع، ويكنون دوما المحبة والطاعة والتقدير لأولي الامر، مهما اختلفت نواياهم معهم، وتباينت حلولهم لمشاكلهم، لكن الخوف كل الخوف ان أصبح بعضهم نجوما، من صنيعة الفضائيات، وقد بلغوا من الكبر عتيا، وان أوهمونا وخدعونا بأن ما كتب في دستور 2014 لا مثيل له على الإطلاق في التاريخ، كفيل حسب زعمهم، باتخاذه مثالا يقتدى به، لأنهم يعتبرونه ‘معجزة القرن’…

دستور بعيد عن الواقع

فيتهافتون إلى اليوم على شكره، والإعجاب به، والإطناب في مزاياه التي هي مرسومة على صفحاته، حسب تخميناتهم، ويصدقونها دون فهم، وواقع الحال وبيان الحقيقة ان ثغراته فاقت محاسنه، وقد كنت مستشارا لرئيس المجلس ولمست عينات من عدم ملاءمته للواقع، والمأمول ان يكون الدستور الجديد بعيدا عن شعارات “تونس الغد” التي تذكرنا بمن مارس الحكم، واستفحل معه العبث بموارد الدولة، وخرجت منها لوبيات فساد، سيطرت على البلاد، ولا فائدة في ما سمي ب”الهيئات الدستورية المستقلة” ان يأتي تكوينها ونظامها في الدستور، وكفاية ان تكون تركيبتها وتنظيمها  تضبط بقانون، لأن التجربة لم تكن في المستوى المطلوب، ولم تعرف على الاطلاق بالحياد والنزاهة والاستقلالية، وتكاثرت الاستقالات في صلبها، وعجزت عن الالتزام بقوانينها الداخلية، وتقديم تقاريرها السنوية في مواعيدها، واصبحت حقيقتها ملاذا لأحزاب الحكم وكوادرها، والرجاء ان يكون الدستور الجديد ثابتا، لا يبطله وزن، ولا يرده قياس، يجمع بين الشمولية والاتزان والاختصار، منهجه دستور 1956 الذي كان يرمي الى “بناء نظام ديمقراطي تعددي يضمن الحريات الاساسية ولا توجد في المشروع اي فقرة تشير الى نظام الحزب الواحد…

تغييرات كبرى

وقد اجتنبنا الاشارة الى الحزب في صلب الدستور و في التوطئة المتضمنة للمبادئ العامة…”هذه “شهادة للتاريخ”  في  كتاب احمد المستيري، وما احوجنا اليوم الى رجال مثله، تتلمذوا على بورقيبة، وشاركوه مساره، في بلاد كاد يكون فيها العلم في تقدم مستمر، اذ فتحت له الآفاق في جميع مستوى العيش، و غزت التكنولوجيا كل الأماكن، في المدن والأرياف على حد سواء، والشبكة العنكبوتية باختلاف أصنافها من أنترنت وفيسبوك، وحتى الهاتف الجوال المتطور، وكل طرق الاتصال بأنواعها انتشرت٬ مدعمة تحسين المعرفة٬ وتحيين الأحداث، ونتج عن هذا التطور المطرد وغير المتوقع في سرعة انتشاره أن الطبقة النيرة التي اتسعت رقعتها على مر السنين٬ أصبحت تغزو شيئا فشيئا مناطق النفوذ٬ وتبحث عن دراية إمكانية تحمل المسؤولية في أعلى هرم الدولة، وهو ايجابي لتجديد المسار، وللشباب خاصة اليوم الحق أن يصبح شباب الفكر٬ وشباب اليد المفتوحة، وشباب الإصداع بالراي، ومن البديهي أن يتيقن ان حقيقة الأمس ليست هي في صلبها حقيقة اليوم، وهو الذي قاد ثورة سلمية، وغاب في المشهد عن الدفاع عنها، من كل الكوارث المتتالية٬ والظاهرة على السطح٬ نتيجة مستقبل  محدود في أفقه الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولا غرابة في ذلك، ان  دستور 2014 لم يهتم بالسياسة الاقتصادية وفقدت فيه حتى كلمة اقتصاد، وقد عرفت البلاد، طيلة أكثر من عقدين، ظهور البذخ المفرط، و الإثراء الفاحش غير المشروع، بطرق مخالفة للقانون، تحت غطاء ليبرالي متسلط٬ وجائر، ليزال من تولى الحكم يكشف ركائزه٬  وخفاياه المتعددة الجذور، وواكب العشريتين المنقضيتين ظهور الفقر المزمن٬ وفقدان التوازن الجهوي المنشود على اشده، ولو نظرنا للواقع بعجالة، لوجدنا أن التعليم الذي اختارته الأمة كأسس لبناء الدولة الحديثة، والمجتمع المتحضر، وحرصت على تعميمه، لم يسطو إلى إمكانية التشغيل المباشر، وإيجاد الحلول الكفيلة بتجذير الشباب واستقراره في محيطه الطبيعي، ليتفاعل معه٬ ويؤثر فيه٬ بل دفعه الوضع ٳلى النزوح والموت بين امواج البحار، او الميل الى المخدرات للغيبوبة وفقدان الرصانة…

فهاجرت الكفاءات ٳلى المدن الكبرى، واختارت النزوح الى الخارج، بحثا عن رغد العيش، وأملا في تحقيق فرحة الحياة، في كنف الحرية والكرامة. ونتج عن كل ذلك  انعدام وجود منابر الحوار بأشكالها معه، وغابت المثالية في السلوك، والانضباط في العملٍ، ولم تقم  وسائل الإعلام بدورها في البحث عن الحقيقة، وامتازت بالابتذال، وتشبثت بما يزيد نشر الكآبة، ولم يكن ديدنها ومنهجها اتباع ما يؤهل لحياة ديمقراطية، أسسها التداول على الحكم الرشيد، بطرق سلمية يكون فيها القانون و صندوق الاقتراع سيدا الموقف٬ شريطة النزاهة والمصداقية، ويؤدي ذلك المناخ المنشود حتما ٳلى نبذ العنف، والتصدي إليه٬ والإشهار به٬ لأن لدعاة الردة وقوى المال السياسي إمكانية مسايرة الواقع، والتأثير على مساره في الاتجاه المعاكس، والدفع به ٳلى حيث لا يريد الشعب، والمسيرة تكون سلمية عبر وحدة قومية من طراز عصري٬ وعوض التناحر على المسؤولية والانتماءات الحزبية الضيقة، ٳن الرجوع ٳلى البرامج والتصورات المستقبلية٬ الممكنة إنجازها٬ في خريطة طريق واضحة المعالم٬ منبثقة من واقع معاش٬ وملمة بمعطيات محلية وجهوية، مرقمة في جميع الميادين٬ هو الحل الأمثل لبناء اقتصاد متميز في ظروف عالمية صعبة٬ تطغى عليها المصالح القومية.  

الأيديولوجيات ماتت

ٳن عصر الأيديولوجيات ولى وانقضى بدون رجعة، وترك المجال واسعا لظهور الهيئات المدنية، ودورها يكون  فاعلا شريطة أن لا تكون في أصولها٬ خلايا لأحزاب سياسية تسير بأوامرها، وتحقق مآربها، طبعا ٳن الأحزاب لها روادها، ولها المدافعون عنها٬ لكن أثبت الواقع تقلصها، ٳذ تلاشت مباديها٬ لعدم إنجاز وعودها، وأمام التقدم التقني وانفتاح الأفق للجميع بإدراك الحقائق ومرارتها إزاء الوعود الجذابة، والتي لم تحقق لذويها سوى الحكم المستبد٬ والبطالة المتفاقمة٬ تنكر لهذه المذاهب المثقفون والسياسيون، وصعب تجنيد طاقاتهم٬ في محيط يسوده التطاحن على المسؤولية، و عدم احترام الرأي المخالف.                          

وخاتمة القول كان من المؤكد تنظيم “سبر الآراء” وقد تناولناه بالدرس  وشرحنا ثوابته لدوره في صياغة الرأي العام، وقد وقع ذكره في القرآن الكريم، ولو التجأنا الى دراسة عينة فهي تكفينا للتعرف  عن المجتمع ونشاطاته لغرض التخطيط واتخاذ القرارات، وكذلك تكليف اختصاصي في علم الاقتصاد لرئاسة لجنة الاقتصاد او نسج على منوال رئيس فرنسا الذي التجأ إلى البحث عن حجمين فرنسيين: “جان تيرول” ، جائزة نوبل في الاقتصاد 2014 ، وأوليفييه وبلانشارد ، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي (IMF) من 2008 إلى 2015 ، اليوم في معهد بيترسون ، وهو مركز أبحاث في واشنطن. و اعطيت للرجلين الحرية الكاملة لتكوين فريقهما “ولم يستبعد الرئيس أي أسماء” وسيعملون بشكل مستقل تمامًا”، لجنة “خبراء حول التحديات الاقتصادية الكبرى” ، يشكلها رئيس الدولة رسميًا، خلال مداخلة اعلامية مثلا، مهمتها “تقديم توصيات من المرجح أن تلهم السياسات العامة، حول مواضيع الانتعاش الاقتصادي” و “عدم المساواة”  و”الفقر” وما إلى ذلك من مهام على المدى القصير والطويل، وكذلك القيام بمراجعة العقيدة الاقتصادية الممثلة في الليبرالية والسوق الموازية التي غزت بلادنا، والواجب يدعو  وضع حد لسيطرتها  ولا يكون ذلك بباب في الدستور.

هوامش

د.رجب حاجي:
دكتور في الاحصائيات- دكتور في الاقتصاد- شهادة تكوين مستمر معة هارفارد الأمريكية – ألف أربع كتب في علم الاحصاء في المستوى الجامعي- أول رئيس بلدية ملولش- شغل رئيس ديوان المرحوم محمد الصياح عشرات السنين و رئيس ديوان وزيرة الصحة ومكلف بمهمة في اختصاصاته لدى رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر الى غيرها من المسؤوليات الوطنية.

المصدر : الصريح

Load More Related Articles
Load More By Assarih

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *